كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئًا وأثر في حدوث شيء فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقًا، ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله، وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي، فخالق ذلك الأمر في الحقيقة هو الله سبحانه لا غير.
وإذا ثبت هذا الأصل تفرعت عليه مسائل: إحداها: أنه لا إله إلا الله إذ لو حصل إلهان لكان الإله الثاني خالقًا ومدبرًا، وذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصص الخلق بهذا الواحد.
وثانيها: أنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وإلا لحصل خالق سوى الله، وذلك ضد مدلول هذه الآية.
وثالثها: أن القول بإثبات الطبائع، وإثبات العقول والنفوس على ما يقوله الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وإلا لحصل خالق غير الله.
ورابعها: خالق أعمال العباد هو الله، وإلا لحصل خالق غير الله.
وخامسها: القول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل وإلا لحصل مؤثر غير الله، ومقدر غير الله، وخالق غير الله، وإنه باطل.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن كلام الله قديم.
قالوا: إنه تعالى ميز بين الخلق وبين الأمر، ولو كان الأمر مخلوقًا لما صح هذا التمييز.
أجاب الجُبّائيّ: عنه بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلًا في الخلق فإنه تعالى قال: {تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1] وآيات الكتاب داخلة في القرآن وقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] مع أن الإحسان داخل في العدل وقال: {مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وهما داخلان تحت الملائكة.
وقال الكعبي: إن مدار هذه الحجة على أن المعطوف يجب أن يكون مغايرًا للمعطوف عليه، فإن صح هذا الكلام بطل مذهبكم لأنه تعالى قال: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يؤمن بالله وكلماته} [الأعراف: 158] فعطف الكلمات على الله فوجب أن تكون الكلمات غير الله وكل ما كان غير الله فهو محدث مخلوق، فوجب كون كلمات الله محدثة مخلوقة.
وقال القاضي: أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل، بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته، وقال آخرون: لا يبعد أن يقال: الأمر وإن كان داخلًا تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمرًا يدل على نوع آخر من الكمال والجلال فقوله: {لَهُ الخلق والامر} معناه: له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى، ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية، ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب، كان ذلك حسنًا مفيدًا مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق فكذا هاهنا.
وقال آخرون: معنى قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق فكذا قوله: {والأمر} يجب أن يكون معناه: أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، وإذا كان حصول الأمر متعلقًا بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقًا كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقًا بمشيئته كان مخلوقًا، أما لو كان أمر الله قديمًا لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته، بل كان من لوازم ذاته.
فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، وذلك ينفي ظاهر الآية.
والجواب: أنه لو كان الأمر داخلًا تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريرًا محضًا، والأصل عدمه.
أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة، إلا أن الأصل عدم التكرير. والله أعلم.
المسألة الثالثة:
هذه الآية تدل على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئًا إلا الله سبحانه.
وإذا ثبت هذا فنقول: فعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض وبالجملة فلا يجب على الله لأحد من العبيد شيء ألبتة، إذ لو كان فعل الطاعة يوجب الثواب لتوجه على الله من العبد مطالبة ملزمة وإلزام جازم، وذلك ينافي قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}.
المسألة الرابعة:
دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء، ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه، ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكنًا من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى.
المسألة الخامسة:
دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره: إنه قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم} والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر.
ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره، وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق، ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق، فوجب أن يكون قادرًا على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد، فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له:
يأيها الناس كم لله من فلك ** تجري النجوم به والشمس والقمر

ثم قال في أثناء هذه القصيدة:
هنا على الله ماضينا وغابرنا ** فما لنا في نواحي غيره خَطَرُ

المسألة السادسة:
قال قوم: {الخلق} صفة من صفات الله وهو غير المخلوق، واحتجوا عليه بالآية والمعقول.
أما الآية فقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} قالوا: وعند أهل السنة {الامر} لله لا بمعنى كونه مخلوقًا له، بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون {الخلق} لله لا بمعنى كونه مخلوقًا له بل بمعنى كونه صفة له، وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى.
وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا: لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن؟ فنقول: في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحًا، فلو كان كونه تعالى خالقًا له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جاريًا مجرى قوله: أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر، وذلك محال باطل، لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقًا من قبل الله تعالى فثبت أن كونه تعالى خالقًا للمخلوق مغايرًا لذات ذلك المخلوق، وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه: لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديمًا لزم من قدمه قدم المخلوق، وإن كان حادثًا افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال.
المسألة السابعة:
ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله، فكذلك لا أمر إلا لله، وهذا يتأكد بقوله تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} [الأنعام: 57] وقوله: {فالحكم للَّهِ العلى الكبير} [غافر: 12] وقوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] إلا أنه مشكل بالآية والخبر.
أما الآية فقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وأما الخبر فقوله عليه السلام: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
والجواب: أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن أمر الله قد حصل، فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} يدل على أن لله أمرًا ونهيًا على عباده، وأن له تكليفًا على عباده، والخلاف مع نفاة التكليف.
واحتجوا عليه بوجوه: أولها: أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع.
فكان الأمر به أمرًا بتحصيل الحاصل وأنه محال، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمرًا بما يمتنع وقوعه وهو محال، وثانيها: أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله، كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر، وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الأمر به.
وثالثها: أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض، لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع، امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة، إلا إذا صار علم الله جهلًا، والعبد لا قدرة له على تجهيل الله، وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم فوجب أن يقال: لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلًا، وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب، فيكون هذا الأمر والتكليف إضرارًا محضًا من غير فائدة ألبتة، وهو لا يليق بالرحيم الحكيم، ورابعها: أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث، وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس بإله، وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد.
فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع، ودفع الضرر، والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف، فكان توسيط التكليف إضرارًا محضًا من غير فائدة، وأنه لا يجوز.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده، وأن يكلفهم بما شاء واحتج عليه بقوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقًا لهم كان مالكًا لهم، وإذا كان مالكًا لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم، لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه، وذلك مستحسن، فقوله سبحانه: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء.
المسألة التاسعة:
دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقًا لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحًا، ولا كما يقولونه أيضًا من حيث العوض والثواب، لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولًا، ثم ذكر الأمر بعده، وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقًا لهم موجدًا لهم، وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف، هذا القدر سقط اعتبار الحسن، والقبح، والثواب، والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف.
المسألة العاشرة:
دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر، وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل، إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت، والدليل عليه قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} فدل ذلك على أن له الأمر، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي، والخبر، والاستخبار، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
المسألة الحادية عشرة:
أنه تعالى بين كونه تعالى خالقًا للسموات، والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم.
ثم قال: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} أي لا خالق إلا هو.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من كونه تعالى خالقًا لهذه الأشياء أن يقال: لا خالق على الإطلاق إلا هو، فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق؟ فنقول: الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقًا لبعض الأشياء، وجب كونه خالقًا لكل الممكنات، وتقريره: أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه، والإمكان واحد في كل الممكنات، وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين، أو إلى مؤثر غير متعين والثاني باطل، لأن كل ما كان موجودًا في الخارج فهو متعين في نفسه، فيلزم منه أن ما لا يكون متعينًا في نفسه لم يكن موجودًا في الخارج وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج، فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين، فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجًا إلى ذلك المعين.
فثبت أن الذي يكون مؤثرًا في وجود شيء واحد، هو المؤثر في وجود كل الممكنات.
أما قوله تعالى: {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقًا للسموات، والأرض، والعرش، والليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم وبين كون الكل مسخرًا في قدرته وقهره ومشيئته، وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف، بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه، فقال: {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} وقد تقدم تفسير {تبارك} فلا نعيده.
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية: رب السموات والأَرَضين، وسائر الأشياء المذكورة، ثم ختم الآية بقوله: {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} والعالم كل موجود سوى الله تعالى، فبين كونه ربًا وإلهًا وموجودًا ومحدثًا لكل ما سواه، ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل، وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية. اهـ.